عبد الحليم محمود هو أحد شيوخ مصر الأجلاء والذي احتل اسمه مكانة مميزة بين علماء الأزهر، وهو مفكر وفيلسوف إسلامي شغل منصب شيخ الأزهر في الفترة ما بين 1973- 1978، وكانت له العديد من المواقف الحازمة، فلم يتردد في الدفاع عن قضايا الأمة ولم يتهاون في الدفاع عن أي قضية وإبداء الرأي الحاسم بها، ولم يكتف الشيخ عبد الحليم بقضايا بلده فقط بل كانت له مشاركات وأراء في مختلف قضايا الوطن العربي والإسلامي الأمر الذي جعل له مكانة بارزة كعالم فكان يستقبل بحفاوة في جميع الدول التي قام بزياراتها ويلقى الكثير من الترحاب والاحترام.
ولد محمد عبد الحليم محمود بقرية أبو أحمد بمدينة بلبيس محافظة الشرقية في الثاني عشر من مايو 1910، ترعرع في وسط عائلة كريمة عرفت بالصلاح والتقوى، أتم حفظ القرآن الكريم وتلقى دراسته في الأزهر الشريف وحصل على الشهادة العالمية عام 1932، وسعى الشيخ عبد الحليم من أجل إكمال دارسته فسافر إلى باريس على نفقته الخاصة وتمكن من الحصول على درجة الدكتوراه في التصوف الإسلامي من جامعة السوربون عن الحارث المحاسبي عام 1940.
حياته العملية
عقب عودته إلى مصر وحصوله على الدكتوراه عمل كمدرس لعلم النفس بكلية اللغة العربية، ثم كأستاذ للفلسفة بكلية أصول الدين عام 1951 وتدرج في مناصبها العلمية حتى أصبح عميداً للكلية عام 1964، وتم اختياره كعضو في مجمع البحوث الإسلامية، ثم أميناً عاماً له، ووقع الاختيار عليه ليكون وكيلاً للأزهر عام 1970، وتولى وزارة الأوقاف، وصدر قرار بتعينه شيخاً للأزهر في السابع والعشرين من مارس 1973 أثناء فترة رئاسة الرئيس الراحل أنور السادات.
افتتح المؤتمر الإسلامي الأوروبي عام 1973 وأصدر قرارا لوضع دستور إسلامي يوضع تحت طلب أي دولة تريد تطبيق الشريعة الإسلامية، كما رأس وفد علماء الأزهر لزيارة بعض الدول الأفريقية والتعرف علي أحوال المسلمين بها مثل تشاد، توجو، سيراليون، النيجر، وسافر إلى تونس أستاذ زائر لجامعة الزيتونة ثلاث مرات، وأستاذ زائر بجامعات الفلبين وأندونيسيا وباكستان والسودان وماليزيا والكويت والعراق.
كما زار الولايات المتحدة الأمريكية حيث قام بجولات في المراكز الإسلامية بها وحرص علي تشجيع القائمين عليها، وشكل عدة لجان للنهوض بالدعوة الإسلامية مثل لجنة بحوث القرآن الكريم، لجنة السنة النبوية، لجنة المسجد الأقصى، لجنة إحياء التراث الإسلامي.
إنجازات في حياة الشيخ
أطلقت الحياة العلمية والعملية للشيخ عبد الحليم العديد من الإنجازات في كل مرحلة وكل منصب تقلده فعقب توليه أمانة مجمع البحوث الإسلامية شكل جهاز فني وإداري من أكفأ رجال الأزهر، وجهزه بمكتبة علمية ضخمة، كما ضم إليه الخبرات العلمية، وعقد في عهده مؤتمر مجمع البحوث الإسلامية والذي توالى انعقاده بانتظام بعد ذلك، كما أهتم بتحديث مكتبة الأزهر.
وعندما تولى وزارة الأوقاف قام بضم 1500 مسجد أهلي إلى الأوقاف، وإنشاء ألفي حلقة لتحفيظ القرآن الكريم، وإنشاء ألف فصل دراسي لتقوية طلاب المدارس وإنشاء مكتبة إسلامية في كل مسجد، كما قام بالعناية بالمساجد التاريخية القديمة وتجديدها ومن أبرزها مسجد عمرو بن العاص والذي أصابه الإهمال لفترة من الزمن، كما رد الأوقاف التي أخذها الإصلاح الزراعي وقام بإنشاء هيئة لإدارة هذه الأوقاف والاستفادة من أرباحها لصالح الوزارة.
وسعى خلال توليه لرئاسة الأزهر من اجل إعادته إلى مكانته المرموقة كمنبر علمي متميز في العالم أجمع، وخاض عدد من المعارك في سبيل ذلك فكان الشيخ على الرغم من هدوءه إلا أنه كان قوي لا يدع حق إلا سارع بالدفاع عنه والمحاربة لنصرته، كما اخذ
تمكن الشيخ عبد الحليم محمود خلال فترة توليه مسئولية مشيخة الأزهر من أن يعيد للأزهر مكانته وهيبته، وذلك بعد صدور قانون الأزهر الذي أصدره رئيس الجمهورية في يوليو 1974، والذي تم من خلاله تنظيم شئون الأزهر وتحديد مسئولياته وأن يكون تابعاً لمسئولية وزير الأوقاف وشئون الأزهر، مما أفقده استقلاله، وتقليص سلطات شيخ الأزهر، هذا بالإضافة للتوسع في التعليم المدني ومعاهده العليا وإلغاء جماعة كبار العلماء.
وقد جاء الشيخ عبد الحليم معارضاً لهذا وسارع بتقديم استقالته احتجاجاً على ذلك وقد أثار هذا القرار ضجة كبيرة في مصر والعالم العربي، ولم يعد إلى منصبه إلا بعد إلغاء الرئيس أنور السادات القرار وصدرت اللائحة التنفيذية التي تخوِّل للأزهر شئونه، والتي جاء فيها " أن شيخ الأزهر هو الإمام الأكبر وصاحب الرأي في كل ما يتصل بالشئون الدينية والمشتغلين بالقرآن وعلوم الإسلام، وله الرياسة والتوجيه في كل ما يتصل بالدراسات الإسلامية والعربية في الأزهر"، وخلال فترة رئاسته للأزهر عمل على التوسع في إنشاء المعاهد الأزهرية، وأصبح للأزهر مواقف حاسمة في العديد من القضايا.
مواقف حاسمة
واجه الشيخ عبد الحليم العديد من المواقف في حياته والتي نذكر منها عقب عودته من فرنسا وكان ذلك في رئاسة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر كان الشيخ عبد الحليم يرتدي "البدلة" وفي أحد الخطابات التي ألقاها عبد الناصر قام بالتهكم على علماء الأزهر وقال عليهم " إنهم يُفتون الفتوى من أجل ديكٍ يأكلونه"، وكانت الجملة السابقة بمثابة طعنة سددت للأزهر وعلمائه فغضب الشيخ عبد الحليم جداً وشعر بالكثير من الإهانة التي وجهت للأزهر وعلمائه فقام بخلع "البدلة" وارتدى الزي الأزهري، وطالب زملاءه أن يحذو حذوه فاستجابوا له كنوع من التحدي ورفع هذه الإهانة عن الأزهر وعلمائه.
موقف أخر تصدى له الشيخ عبد الحليم وبقوة وكان ذلك عندما صدر قانون الأحوال الشخصية والذي روج له بعض المسئولين بتعديله والذي ينص على تقييد الطلاق ومنع تعدد الزوجات خلافاً للشريعة الإسلامية، ووقف الشيخ بقوة في وجه هذا القانون قائلاً "لا قيود على الطلاق إلا من ضمير المسلم، ولا قيود على التعدد إلا من ضمير المسلم { وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} "آل عمران الآية 101"، وبالفعل تم إلغاء هذا القانون.
كما وقف ضد اقتراح البابا شنودة بطريرك الأقباط في مصر بتأليف كتاب مشترك يجمع ما بين الدين الإسلامي والمسيحي من اجل تدريسه للطلاب في المدارس من منطلق تعميق الوحدة الوطنية، وهو الأمر الذي رفضه الشيخ وأعلن انه سوف يقدم استقالته لو نفذ هذا.
كما كانت له مواقف أخرى من المحاكمات العسكرية ضد جماعات التكفير، وموقف شديد ضد قانون الخمر، حيث ندَّد به في كل مكان، وموقفه أيضًا من الشيوعية والإلحاد، وموقفه العظيم من الوفد البابوي، كما حاول إعادة تشكيل هيئة كبار العلماء من الأكفاء ومِن حِسَان السمعة والعدول.
مؤلفاته
إحدى كتب الشيخ
وللشيخ عبد الحليم العديد من المؤلفات والتي تجاوزت الستين مؤلف في التصوف والفلسفة صدر بعضها بالفرنسية، نذكر من مؤلفاته أوروبا والإسلام، التوحيد الخالص، التفكير الفلسفي في الإسلام، القرآن والنبي، المدرسة الشاذلية الحديثة وإمامها أبو الحسن الشاذلي، الرسول، يارب، العبادة" أحكام وأسرار" ، محمد رسول الله، الحج إلى بيت الله الحرام، فلسفة أبن طفيل، المنقذ من الضلال، الإسلام والإيمان جزأين، الإسلام والشيوعية، قطبا المغرب، دلائل النبوة، الفقهاء والمحدثون - ثلاث أجزاء، لطائف المنن، التصوف عند ابن سينا، الحارث بن أسد المحاسبي رسالة دكتوراه بالفرنسية الفلسفة اليونانية مترجم عن الفرنسية، وقد ترجمت عدد من كتبه عن العقيدة الإسلامية إلى الإنجليزية.
وفاته
جاءت وفاة الشيخ عبد الحليم محمود في السابع عشر من أكتوبر 1978، بعد حياة حافلة قضاها في خدمة دينه ووطنه، وتم منح اسمه وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى بمناسبة الاحتفال بالعيد الألفى للأزهر.