عنوان التوفيق في آداب الطريق
للإمام العارف بالله سيدي
تاج الدين أحمد بن محمد عبد الكريم بن عطاء الله السكندري
<BLOCKQUOTE>
قال الشيخ العارف بالله القدوة المحقق، تاج العارفين، ولسان المتكلمين، إمام وقته، ووحيد عصره، تاج الدين أبو الفضل أحمد ابن محمد بن عبدالكريم بن عطاءالله السكندري رضي الله عنه ونفعنا به، آمين:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله المنفرد بالخلق والتدبير، الواحد في الحكم والتقدير، الملك الذي ليس له في مُلكه وزير، المالك الذي لا يخرج عن مُلكه صغير ولا كبير، المتقدس في كمال وصفه عن الشبيه والنظير، المنزَّه في كمال ذاته عن التمثيل والتصوير، العليم الذي لا يخفى عليه ما في الضمير، { ألاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرْ } العَالِم الذي أحاط عِلمه بمَبادِئ الأمور ونهاياتها، السميع الذي فضل في سمعه بين ظاهر الأصوات وخفاياها، الرازق وهو المُنعم على الخليقة بإيصال أقواتها القيوم المتكفل بها في جميع حالاتها، الوهاب وهو الذي منَّ على النفوس بوجود حياتها، القدير وهو المعيد لها بعد وفاتها، الحسيب وهو المُجازي لها يوم قدومها عليه بحسناتها وسيئاتها، فسبحانه من إله مَنَّ على العباد بالجُودِ قبل الوُجود، وقام بهم بأرزاقهم على كلتا حالاتهم من إقرار وجحود، ومَدَّ كل مـوجودٍ بوجودِ عطائِهِ، وحفظ وجود العالم بإمداد بقائه، وظهر بحكمته في أرضه وقدره في سمائه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة عبدٍ مفوِّضٍ لقضائه ومسلِّمٍ له في حُكمِهِ وإمضائِهِ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المفَضَّل على جميع أنبيائه، المخصوص بجزيل فضله وعطائه، الفاتح الخاتم وليس ذلك لسواه، الشافع لكل العباد حين يجمعهم الحق لِفصلِ قضائه.
صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه المستمسكيـن بولائه، وسلم تسليما كثيــراً .
اعلم يا أخي جعلك الله من أهل حُــبِّه، وأتحفك بوجود قربه، وأذاقك من شراب أهل وُدِّهِ، وأمِنكَ بدوام وصْلتِهِ من إعراضه وصَدِّهِ، ووصَلك بعباده الذين خَصَّهم بمراسلاته، وجَبَرَ كسرَ قلوبهم لما علموا أنه لا تدركه الأبصار لنور تجلياته، وفتح لهم رياض القرب وهبَّ منها على قلوبهم واردات نفحاته، أشهدهُم سابقَ تدبيرِهِ فيهم فسلمُوا إليه القياد وكشَفَ عن خفي لطفه في منعه فتركوا المنازعة والعناد، فهم مستسلمون إليه، ومتوكـلون عليه .
أما بعد، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يُحشَر المَرءُ عَلى دِينِ خَلِيلِهِ فليَنظُر أحُدُكم مَن يُخَالِل ) . فإذا علمت أيها الأخ الشقيق، فلا تخالل إلا من ينهضك حالهُ، ويَدُلك على الله مقالهُ، وذلك هو الفقير المتجرِّد عن السِّوى، المقبل على المولى، فليست اللذة إلا مخاللته، ولا السعادة إلا خدمته ومصاحبته، فلذلك قال الشيخ العارف المتمكن أبو مدين رضي الله تعالى عنه.
( مـا لـذة الـعيش إلا صحبة الفقرا ****هم السلاطين و السادات والأمرا )
أي ما لذة عَيشِ السالك في طريق مولاه إلا صحبة الفقراء .
والفقراء جمع فقير، والفقير هو المتجرد عن العلائق، المعرض عن العوائق، لم يبق له قبلة ولا مقصد إلا الله تعالى، وقد أعرض عن كل شيء سواه، وتحقق بحقيقة ( لا إله إلا الله محمد رسول الله ) فمثل هذا مصاحبته تذيقك لذة الطريق، وتريق في جميع فؤادك من شراب القوم أهنى رحيق، ويعرفك الطريق، ويقطع لك العقاب ويزيل عن قلبك التعويق، وينهضك بهمَّـتِهِ ويرفعك إلى أعلى الدرجات، ومن كان كذلك فهو السلطان على الحقيقة، والسيد على أهل الطريقة، والأمير على أهل البصيرة .
فلا تخالف أيها السالك طريقه، واجتهد أيها السالك المُجِدُّ في تحصيل هذا الرفيق، وأصحبه وتأدب في مجالسه، ويزيل عنك ببركة صحبته كل تعويق .
كما قال رضي الله تعالى عنه :
( فاصحبهموا وتأدب في مجالسهم ****وخــل حـظـك مـهما قـدموك ورا )
أي اصحب الفقراء، وتأدب معهم في مجالستهم فإن الصحبة شبح، والأدب روحها، فإذا اجتمع لك بين الشبح والروح حُزتَ فائدة صحبته، وإلا كانت صحبتك ميتة فأي فائدة ترجوها من الميت.
ومن أهم آداب الصحبة أن تخلف حظوظك وراءك ولا تكن همتك مصروفة إلا لإمتثال أوامرهم فعند ذلك يشكر مسعاك، فإذا تخلقت بذلك فبادر واستغنم الحضور وأخلص في ذلك ترفع درجتك وتعلو همتك والقصور، كما قال رضي الله عنه :
( واستغنم الوقت واحضر دائما معهم**** واعلم بأن الرضا يختص من حضرا )
أي واسـتغنم وقت صحبة الفقراء واحضر دائما معهم بقلبك وقالبك تسري إليك زوائدهم، وتغمرك فوائدهم، وينصح ظاهرك بالتأدب بآدابهم، ويشرق باطنك بالتحلي بأنوارهم، فإن من جالس جانس، فإن جلست مع المحزون حزنت، وإن جلست مع المسرور سُرِرت، وإن جلست مع الغافلين سَرَت إليك الغفلة، فإنهم القوم لا يشقى جليسهم، فكيف يشقى خادمهم ومحبهم وأنيسهم وما أحسن ما قيل :
لـي سادة من عزهم أقدامهم فوق الجباه
إن لم أكن منهم فلي فـي حبهم عِزٌ وجاه
واعلم أن هـذا الرضا، وهذا المقام يخص من حضر معهم بالتأدب، وخرج عن نفسه، وتحلى بالذلة والإنكسار، فاخرج عنك إذا حضرت بين أيديهم، وانطرح وانكسِر إذا حللت بناديهم فعند ذلك تذوق لذة الحضور، واستعن على ذلك بملازمة الصَّمت، تشرق لك أنوار الفرح، ويغمرك السرور كما قال رضي الله عنه :
( ولازم الـصـمت إلا إن سـئلت فـقل**** لا علم عندي وكن بالجهل مستترا )
الصَّـمت عند أهل الطريقة من لازمه ارتفع بنيانه، وتمَّ غِراسه، وهو نوعان : صمت باللسان وصمت بالجَنان وكلاهما لا بدَّ منه في الطريق فمن صمت قلبه ونطق لسانه نطق بالحكمة، ومن صمت لسانه وصمت قلبه تجلـى له سره، وكلمه ربه، وهذا غاية الصمت وكلام الشيخ قابل لذلك فالزم الصمت أيها السالك إلا إن سُـئـِلت فإن سُـئـِلتَ فارجع إلى أصلِك ووصلك وقل لا علم عندي واسـتتر بالجهل تشرق لك أنوار العلم اللدني، فإنك مهما اعترفت بجهلك ورجعت إلى أصلِك لاحت لك معرفة نفسك، فإذا عرفتها عرفت ربك، كما روي في الحديث { مَن عَرفَ نفسَهُ عَرفَ رَبَّهُ }، "تعليق:هذا ليس بحديث، وإنما هو من كلام يحيى بن معاذ الرازي، وللإمام السيوطي فيه رسالة اسمها: القول الأشبه في من عرف نفسه فقد عرف ربه.اهـ " وكل ذلك من فوائد الصمت ولزوم آدابه، فاصمـت وتأدب ولازم الباب تكن من أحبابه، وما أحسن ما قيل :
لا أبرح الباب حتى تصلحوا عوجي ***وتـقـبلوني عـلـى عـيبي ونـقصاني
فـإن رضـيتم فـيا عـزي ويـــا شرفي ***وإن أبـيـتم فـمـن أرجــو لـعصياني
</BLOCKQUOTE>